← رجوع

بي بي سي: كيف يُغير الفيروس التاجي من مستقبل العالم؟

ترجمة: إبراهيم مأمون

نشرت شبكة "بي بي سي" مقالًا تحليليًا للباحث في مجال الاقتصاد البيئي بجامعة سري البريطانية سيمون ماير تساءل خلاله عما سيحدث بالعالم عقب انقضاء تفشي فيروس كورونا التاجي، وهل سيُمهد أسلوب حياتنا الحالي من استجابة الحكومات والمجتمعات لتداعيات الفيروس الاجتماعية والاقتصادية ويُمكننا ذلك من التحول إلى اقتصاد أفضل وأكثر إنسانية أم الانزلاق نحو الأسوأ.

واستهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى حاجة العالم الماسة إلى نوع مختلف تمامًا من الاقتصادات التي عاصرناها من قبل، في حال إذا أردنا بناء مستقبل عادل وسوي اجتماعيًا وسليم بيئيًا، وهو الأمر الذي أصبح احتياجنا له أكثر وضوحًا بعد ظهور وتفشي فيروس كورونا المُستجد "كوفيد 19" على مستوى العالم.

ويستعرض ماير نظرته لمستقبل العالم المحتملة من خلال التركيز على أساسيات الاقتصاد الحديث، من بينها سلاسل التوريد العالمية والأجور والقدرة الإنتاجية.

وأوضح أنه من منظوره الاقتصادي، يرى أن هناك أربع نظرات مستقبلية محتملة قد يتحول إليها العالم، من بينها الانحدار إلى البربرية والهمجية، أو التحول إلى الرأسمالية الصارمة، أو إلى الاشتراكية الراديكالية، أو إلى مجتمع كبير يرتكز على مبدأ المساعدة المتبادلة.

تغير المناخ وكوفيد 19

ويرى ماير أن الفيروس التاجي هو أشبه بالتغير المناخي، فهي مشكلة ناجمة جزئيًا بسبب هيكلنا الاقتصادي، رُغم أن كلاهما يبدوان مشاكل "بيئية" أو "طبيعية"، إلا أنهما ناتجان عن أسباب اجتماعية.

وأوضح أن "تغير المناخ" يحدث بالتأكيد بسبب امتصاص غازات معينة للحرارة، إلا أن ذلك هو السبب الفعلي المباشر وراء حدوثه، لكن هناك أسباب اجتماعية أخرى تتسبب في استمرار انبعاث الغازات الدفيئة، وهذا بالمثل ما حدث مع جائحة "كوفيد 19"، فبالتأكيد السبب المباشر من انتشارها هو الفيروس، لكن إدارة تداعياتها تتفاوت حسب السلوك البشري والواقع الاقتصادي الأوسع لكل دولة.

وأردف يقول إنه من الممكن معالجة قضايا "تغير المناخ" وجائحة "كوفيد 19" بصورة سهلة للغاية في حالة اتخاذنا قرارات بتقليل الأنشطة الاقتصادية غير الضرورية، فبالنسبة لـ"تغير المناخ" فإن إنتاج عدد أقل من المنتجات، سيجعلك تستخدم طاقة أقل، وتنبعث على أثرها غازات دفيئة أقل.

أما بالنسبة لجائحة "كوفيد 19" فهي تتطور وتنتشر سريعًا عند اختلاط البشر وتنقلهم بين المنازل وأماكن العمل والرحلات، لذلك، فإن تقليل هذه التنقلات ستُسهم في خفض انتشار العدوى من شخص لآخر، وخفض معدل انتشار الحالات بشكل عام.

وأضاف أن تقليل معدلات اختلاط البشر سيساعد في استراتيجيات التحكم في تفشي المرض الأخرى، حيث تتمثل إحدى استراتيجيات التحكم الشائعة في الأمراض الوبائية في العزل وتتبع الحالات المخالطة، ويحدث ذلك من خلال تحديد الأشخاص المخالطين للشخص المصاب، ويتم عزله لمنع انتشار المرض، وفي حالة خفض معدل التنقلات والاختلاط بين البشر، ستكون تلك الاستراتيجية ذات فعالية قوية حيث سيُصبح لدينا نسبة محدودة من الأشخاص المخالطين الذين يُمكن تتبعهم، وبالعكس ففي حالة ارتفاع معدل التنقلات والاختلاط سيُصبح لدينا نسبة كبيرة من الأشخاص المخالطين الذين ينبغي علينا تتبعهم.

واستطرد بالقول إن إجراءات السلطات الصينية في مدينة ووهان من الإغلاق والتباعد الاجتماعي ساهمت بفعالية في الحد من انتشار المرض، فيما يُساعدنا فهمنا للاقتصادات السياسية في فهم وإدراك أسباب تأخر الدول الأوروبية والولايات المتحدة في فرض إجراءات شبيهة (وبالأخص بريطانيا والولايات المتحدة).

الاقتصاد الهش

وأوضح ماير أن سياسة الإغلاق تُزيد من الضغوط على الاقتصاد العالمي، وتُعرضنا لمواجهة ركود خطير، ما دفع بعض قادة الدول للدعوة إلى المطالبة بتخفيف حدة إجراءات الإغلاق.

وأضاف أن الانهيار الاقتصادي يُمكن توضيحه في نقاط سهلة وبسيطة، وهي أن الشركات قائمة على مبدأ تحقيق الربح، وفي حال توقف الإنتاج لن يتمكنوا من بيع أي شيء، وهو ما سيعني عجزهم عن تحقيق أي أرباح، وستنخفض بالتالي قدرتهم على التوظيف، وفي الأزمات التي تواجه الشركات على مدى فترات زمنية قصيرة تحتفظ تلك الشركات بالعمال الذين لا يحتاجون إليهم على المدى القصير من أجل أن يصبحوا قادرين على تلبية الطلب عند عودة الاقتصاد إلى الارتفاع مرة أخرى.

وأردف يقول إنه في حال كانت الأوضاع الاقتصادية تبدو سيئة للغاية وستمتد الأزمة لفترات طويلة، فلن تتمكن الشركات من الإبقاء على موظفيها، ما سيعني خسارة المزيد من الأشخاص لوظائفهم أو سيُصبحون معرضين لخطر خسارة وظائفهم، ما سيجعلهم يشترون منتجات أقل، وتبدأ الدورة الاقتصادية بأكملها مرة أخرى، ونتجه حينئذ بقوة نحو الكساد الاقتصادي.

ونوه ماير بأنه خلال الأزمات العادية تكون الوصفة العلاجية لتلك الأزمة هي تدخل الحكومة والإنفاق حتى يبدأ الأشخاص في الاستهلاك والعودة للعمل مرة أخرى، إلا أن ذلك لن ينجح هذه المرة لأننا لا نريد أن يتعافى الاقتصاد (على الأقل، ليس في الوقت الحالي)، بل هدفنا الأساسي من الإغلاق هو منع الأشخاص من الذهاب إلى أعمالهم من أجل الحد من انتشار المرض.

وتقترح إحدى الدراسات الحديثة أن رفع إجراءات الإغلاق في ووهان في وقت قريب للغاية سيُعرض الصين لموجة ثانية من تفشي الفيروس في وقت لاحق من عام 2020.

ويرى الاقتصادي جيمس ميدواي أن التعامل الأمثل مع جائحة "كوفيد 19" يتمثل في الابتعاد عن مبدأ الاقتصاد الحربي، والذي يُركز على تعبئة الاقتصاد للإنتاج خلال فترة الحرب، وبدلًا من ذلك علينا إتباع مبدأ اقتصادي مُضاد للاقتصاد الحربي، وهو بخفض معدلات الإنتاج بصورة كبيرة إلى الوقت الذي تنصح به السلطات الصحية في البلاد.

وأوضح أننا بحاجة أن نصبح أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة في المستقبل، لذلك علينا أن نتوصل إلى نظام اقتصادي قادر على تقليص معدلات الإنتاج بصورة لا تتسبب في ارتفاع معدلات البطالة.

وأكد ماير، من جانبه، أننا بحاجة إلى عقلية اقتصادية مختلفة في الوقت الحالي والمستقبل، ففي الوقت الحالي نحن نرى الاقتصاد بصورة عامة على أنه الوسيلة التي تُنظم بيع وشراء الأشياء، وبشكل رئيسي السلع الاستهلاكية، لكن ذلك بالتأكيد ليس جوهر الاقتصاد، فهو قائم في جوهره على الوسيلة التي نُحول بها مواردنا إلى منتجات نحتاجها للمعيشة فقط.

وأضاف أننا إذا نظرنا إلى الاقتصاد بتلك الطريقة، ستتوافر أمامنا المزيد من الفرص للعيش بصورة مختلفة تسمح لنا بخفض معدلات الإنتاج دون زيادة معدلات البؤس، والتي ترتكز على ارتفاع معدلات البطالة والتضخم.

وأشار إلى أنه دأب هو وزملاؤه من الاقتصاديين البيئيين على البحث حول كيفية خفض معدلات الإنتاج بصورة عادلة اجتماعيًا، حيث سيُساعد ذلك الخفض في معالجة قضية "التغير المناخي"، فكلما خفضنا من معدلات الإنتاج، كلما تسببنا في انبعات غازات دفيئة أقل، والعكس كذلك، لكن لا يزال السؤال المطروح أمامنا هو كيف يُمكننا تقليل معدلات الإنتاج دون التسبب في خسارة الأشخاص لوظائفهم؟

وأردف يقول إن الاقتراحات التي طُرحت سابقًا تتضمن خفض مدة أسبوع العمل أو السماح للأشخاص بالعمل بشكل أبطأ وبضغط أقل، وكلاهما لا ينطبقان على جائحة "كوفيد 19"، حيث علينا أن نستهدف في الأساس خفض معدلات الاختلاط بين البشر بدلًا من التفكير في الإنتاج، لكن جوهر المقترحات في القضيتين متماثل، وهو خفض اعتماد البشر على أجورهم لكي يتمكنوا من العيش.

كوفيد 19 والوظائف عديمة الفائدة

وأردف يقول إن جائحة "كوفيد 19" كشفت لنا مدى خطأ معتقداتنا حول الأسواق، حيث تخشى الحكومات في جميع أنحاء العالم عادة من تعطل الأنظمة الحيوية أو تحميلها فوق طاقتها، وخاصة في سلاسل التوريد أو الرعاية الصحية، وهناك الكثير من العوامل التي تُساهم في ذلك، ومن بينها أولًا أن العديد من الخدمات المجتمعية الأساسية لا تستهدف في الأساس جني الأرباح، فيما يُنظر إلى نمو إنتاجية العمل على أنه المحرك الرئيسي لجني الأرباح من خلال إنتاج المزيد بأقل عدد من الأشخاص، في ظل اعتبار العديد من الشركات للعمالة على أنها تكلفة كبيرة يتكبدونها.

ونوه بأنه نتيجة لذلك، فإن القطاعات التي تحتاج إلى توافر الموارد البشرية وتفاعلات مباشرة مثل قطاع الرعاية الصحية شهدت تراجعًا حادًا في معدلات نمو الإنتاجية مقارنة ببقية القطاعات الاقتصادية، ما تسبب في ارتفاع نفقاتها بأسرع من المتوسط.

ولفت إلى أن العامل الآخر هو أن الكثير من الوظائف في القطاعات الحيوية التي تخدم المجتمع لا يحصل العاملون فيها على نظير مادي مرتفع، في الوقت الذي يحصل العاملون في وظائف تستهدف تسهيل عمليات التبادل على أجور مرتفعة للغاية، ولكنها لا تخدم قطاع عريض من المجتمع.

لذلك، نجد لدينا الكثير من المستشارين والعاملين في صناعة الإعلانات الضخمة والقطاع المالي الضخم، في الوقت الذي نواجه فيه أزمة حقيقية في مجال الرعاية الصحية والاجتماعية، حيث يضطر الناس غالبًا إلى ترك وظائفهم المفيدة حقيقة للمجتمع لأن هذه الوظائف لا توفر لهم سبل العيش الكافية.

وأرجع ماير سبب عدم استعدادنا لمواجهة جائحة "كوفيد 19" جزئيًا إلى أن الكثير من الأشخاص يعملون في وظائف عديمة الفائدة، حيث يكشف لنا الوباء أننا نفتقر إلى العدد الكافي من العمالة الضرورية في القطاعات الرئيسية التي تُعد حاليًا خط الدفاع الأول ضد الفيروس التاجي.

وأوضح أن الناس يضطرون إلى العمل في وظائف عديمة الفائدة لأنهم يعيشون في مجتمع أصبحت "قيمة المبادلة" هو المبدأ الرئيسي الموجه للاقتصاد، وأصبحت السلع الأساسية للحياة متاحة من خلال الأسواق فقط، وهو ما يعني أن عليهم الحصول على وظيفة توفر لهم دخل من أجل شراء تلك السلع الأساسية التي تُمكنهم من العيش.

وقال سيمون ماير إن ردود الأفعال الحكومية الأكثر فاعلية في الحد من تفشي الفيروس التاجي تتحدى هيمنة الأسواق وقيمة المبادلة على الاقتصاد، ففي كافة أنحاء العالم تتخذ الحكومات إجراءات بدت قبل ثلاثة أشهر فقط أنها مستحيلة التنفيذ، وفي إسبانيا أممت الحكومة المستشفيات الخاصة، وفي المملكة المتحدة، هناك اتجاه قوي نحو تأميم وسائل النقل المختلفة، وفي فرنسا أبدت الحكومة استعدادها لتأميم الشركات الكبرى.

يأتي ذلك في الوقت الذي نشهد فيه انهيار أسواق العمل، وتوفر بلدان مثل الدنمارك وبريطانيا دخلًا للأفراد من أجل منعهم من الذهاب إلى العمل، وهذا عامل أساسي في إنجاح عملية الإغلاق، ويقول ماير إنه بالرُغم من أن تلك التدابير هي ليست كاملة تمامًا، إلا أنها بمثابة تحول جذري من مبدأ ضرورة عمل الأفراد من أجل الحصول على قوت يومهم ، إلى فكرة أن الأفراد يستحقون العيش حتى لو لم يتمكنوا من العمل.

وأضاف أن ذلك بالتأكيد يعكس الاتجاهات السائدة طوال الأربعين عام الماضية التي نُظر إلى الأسواق وقيم المبادلة خلالها على أنها أفضل وسيلة لإدارة الاقتصاد، ما وضع الأنظمة السياسية تحت ضغوط متزايدة من أجل تسويق أنفسها، وأن تُدار كما لو كانت شركات تجارية تستهدف كسب الأموال، وبالتالي أصبح العاملون تحت وطئة تقلبات الأسواق، فقد أزالت عقود العمل دون الالتزام بساعات محددة واقتصاد العمل الحر طبقة الحماية التي توفرها الوظائف طويلة الأجل والمستقرة من تقلبات الأسواق.

وساهمت جائحة "كوفيد 19" في إبعاد مجالات الرعاية الصحية والسلع الأساسية عن تحكمات السوق ووضعها تحت سيطرة الدولة، فبالرُغم من اختلاف أسباب الدول للإنتاج إلا أنها على عكس الأسواق لن تُنتج من أجل قيمة المبادلة فقط، ويقول الباحث في مجال الاقتصاد البيئي سيمون ماير إن هذه التغيرات التي يشهدها العالم تعطينا أملًا بأن هناك فرصة أمامنا لإنقاذ العديد من الأرواح، ويُظهر لنا أننا يُمكننا التغير على المدى الطويل في الاتجاه الذي يخدم قضية معالجة أسباب التغير المناخي.

وعلق ماير على سبب تأخر الحكومات الدولية في تبني تلك الإجراءات، ولماذا كانت هناك العديد من الدول غير مستعدة لإبطاء معدل الإنتاج؟ بقوله إن الإجابة تكمن في تقرير صادر حديثًا عن منظمة الصحة العالمية "لم يكن لديهم العقلية الصحيحة لإتخاذ تلك التدابير".

وأوضح الاقتصادي البيئي أن الهدف الأساسي للاقتصاد العالمي يرتكز على تسهيل مبادلة السلع والخدمات والمنتجات في مقابل الأموال، وهو ما يسميه الاقتصاديون "قيمة المبادلة".

وأضاف أن الفكرة السائدة للنظام الاقتصادي العالمي حاليًا هو أن "قيمة المبادلة" هي نفس المفهوم لـ"قيمة الاستخدام"، أي أن إنفاق الأشخاص على الأشياء التي يرغبون في شرائها يُظهر لنا حجم تقديرهم لـ"قيمتها الاستخدامية"، وهذا هو السبب الرئيسي في رؤية أنظمة العالم للأسواق باعتبارها أفضل طريقة لإدارة المجتمع، فهي تسمح لك بالتكيف معها، وهي مرنة بصورة كافية للموازنة بين السعة الإنتاجية مع القيمة الاستخدامية.

كوفيد 19 يكشف عوار النخبة الحاكمة

يرى ماير إن الأربعين سنة الماضية شهدت ما هو أشبه بالإجماع الاقتصادي على اتباع النظام الرأسمالي، وهو ما تسبب في تقييد قدرة السياسيين ومستشاريهم على رؤية أوجه الخلل في النظام أو اقتراح بدائل له، وارتكز تفكيرهم على عنصرين رئيسيين فقط، أولهما أن السوق يوفر جودة جيدة للحياة لذا ينبغي حمايته، والثاني أن السوق دائمًا ما يعود إلى طبيعته بعد مرور فترات قصيرة من الأزمات.

وتنطبق تلك الرؤى على عدة دول غربية لكنها ينشطان بقوة في الولايات المتحدة وبريطانيا، فكلاهما انكشف مدى استعدادهما السيء للتعامل مع الفيروس التاجي.

وفي بريطانيا، انكشف توجه أحد كبار مساعدي رئيس الوزراء بوريس جونسون لمواجهة جائحة "كوفيد 19" بأنه يتمثل في "مناعة القطيع، وحماية الاقتصاد، حتى لو كان ذلك سيعني وفاة بعض الأضخاص من أصحاب المعاشات، وهو أمر سيء للغاية بالتأكيد"، لكن الحكومة البريطانية أنكرت ذلك.

ويبدو أن هذا النوع من الآراء مستشري بين أفراد النخبة الحاكمة في الدول، ففي الولايات المتحدة أيضًا قال أحد المسؤولين في ولاية تكساس إنه يفضل موت العديد من كبار السن عن رؤية الولايات المتحدة تغرق في ركود اقتصادي.

"الرؤى المستقبلية"

ويقول ماير إنه استخدم بعض التقنيات في مجال دراسات المستقبل، والتي تنص على استخدام عاملين يعتقد أنهم ذوي أهمية في التحول المستقبلي، ويتخيل النتائج المتوقعة على أثرهما في مجموعات مختلفة من تلك العوامل، ومن بين تلك العوامل هي القيمة والمركزية.

وتُشير القيمة إلى المبدأ المتبع لتوجيه الاقتصاد، فهل نحن نستخدم مواردنا لتعظيم قيم المبادلة والأموال، أم نستخدمها لتعظيم الحياة؟، فيما تُشير المركزية إلى الأنظمة التي تتحول إليها الدول، هل هي عدد من المجموعات الصغيرة، أو قوة قيادية كبرى.

ويوضح ماير أن تلك التقنية ستكشف لنا ما يُمكن أن يحدث مع الأنظمة المستقبلية المتوقع التحول إليها، وكيفية تعامل كل منها مع جائحة الفيروس التاجي، أولهما رأسمالية الدولة والتي كانت ستمتلك رد فعل مركزي فيما ستُعطي أولوية لقيمة المبادلة، وثانيهما الهمجية والتي لن تمتلك رد فعل مركزي فيما ستُعطي أولوية لقيمة المبادلة، وثالثهما اشتراكية الدولة والتي كانت ستمتلك رد فعل مركزي فيما ستُعطي أولوية لحماية الحياة، والأخيرة هي المساعدة المتبادلة والتي كانت لن تمتلك رد فعل مركزي فيما ستُعطي أولوية لحماية الحياة.

"رأسمالية الدولة"

ويقول سيمون ماير إن رد فعل النظام الرأسمالي تجاه الفيروس التاجي هو المشهد المسيطر في جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي، ومن الأمثلة النموذجية عليه: بريطانيا وإسبانيا والدنمارك، مؤكدًا أن هذا النوع من الأنظمة يستمر في السعي دائمًا وراء قيمة المبادلة باعتبارها المبدأ الموجه للاقتصاد، لكنه يعترف بأنه في أوقات الأزمات تحتاج الأسواق إلى دعم الدولة، خاصة في ظل تغيب الكثير من العاملين عن العمل نظرا لأنهم مرضى أو خوفًا على حياتهم من الإصابة بالفيروس التاجي، كما تُقدم الدولة أيضًا في مثل تلك الأوقات خطة تحفيز مالي كبيرة من خلال توفير الائتمان وتقديم دفعات مباشرة إلى الشركات التجارية.

ويتوقع ماير أن تمتد تلك الإجراءات التي يتبناها النظام الرأسمالي لفترة قصيرة فقط، خاصة أن العنصر الأساسي في تلك الإجراءات هو السماح لأكبر عدد ممكن من الشركات بالاستمرار في العمل بقدر الإمكان وتجنب الإغلاق الكامل من أجل الحفاظ على أداء السوق، فعلى سبيل المثال، لا يزال قطاع البناء غير الأساسي في بريطانيا يعمل بصورة مستمرة، ما يتسبب في اختلاط العمال في مواقع البناء.

وأوضح أنه من الصعب استمرار الحكومات في تنفيذ إجراءات محدودة خاصة في حال ارتفاع عدد القتلى، حيث ستتسبب زيادة معدلات الوفيات والإصابة المؤكدة بالفيروس إلى إثارة الاضطرابات المجتمعية وزيادة التداعيات الاقتصادية، ما سيُجبر الحكومات في النهاية على اتخاذ المزيد من الإجراءات الجوهرية لمحاولة الحفاظ على أداء السوق.

ونوه بأن ذلك السيناريو من الممكن أن ينجح فقط في حال ثبوت أن جائحة "كوفيد 19" يُمكن السيطرة عليها خلال فترة قصيرة.

"الهمجية"

أوضح ماير أن النظرة المستقبلية للهجمية من المُمكن أن تحدث فقط في حال مواصلة الحكومات الاعتماد على قيمة المبادلة باعتبارها مبدأ موجه للسوق، فيما ترفض تقديم الدعم للذين تعرضوا للفصل من وظائفهم أو الإصابة بالمرض، مُعتبرًا أياه السيناريو المستقبلي الأكثر قتامة.

وقال إن تلك الآليات التي ستتبعها الحكومات في هذا السيناريو ستتسبب في انهيار الشركات وتضور العمال جوعًا بسبب افتقارهم إلى آليات تدعمهم في مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يشهدها السوق، كما ستزيد من الضغوط على المستشفيات بسبب افتقارها أيضًا إلى آليات لدعمها وسترتفع بالتالي معدلات الوفيات، وسينتهي حال الدول التي تسير على ذلك السيناريو في نهاية المطاف بالدمار أو الدخول في مرحلة انتقالية تتغير فيها تكويناتها السياسية بعد فترة من الدمار السياسي والاجتماعي.

ونوه ماير بأن هذا السيناريو من المحتمل أن يحدث عن طريق الخطأ أثناء فترة تفشي الوباء أو عمدًا بعد بلوغ ذروة تفشي الوباء، فإمكانية حدوثه عن طريق الخطأ تكون في حال فشلت الحكومات في التدخل بطريقة كافية خلال أسوأ أوقات الجائحة لمنع انهيار السوق في مواجهة انتشار المرض، وقد تُرسل السلطات أموالًا إضافية وأفرادًا لمساعدة المستشفيات، ولكن إذا لم يكن ذلك كافيًا أيضًا، فستضطر المستشفيات إلى إبعاد الكثيرين ممن هم في أمس الحاجة إلى العلاج.

وأضاف أن احتمالية تنفيذ هذا السيناريو عمدًا يكمن في محاولة تبني الحكومة لسياسة التقشف الشديدة بعد بلوغ الوباء لذروته، وأن تسعى إلى العودة إلى الوضع "الطبيعي"، لكن هذا سيكون كارثيًا بالتأكيد، لأن إلغاء تمويل بعض الخدمات الحيوية خلال فترة التقشف ستؤثر بالتأكيد على قدرة الدول في التعامل مع هذه الجائحة.

"اشتراكية الدولة"

يصف الباحث في مجال الاقتصاد البيئي اشتراكية الدولة بأنها أول سيناريو مستقبلي يشهد تحولًا ثقافيًا يستخدم نوع آخر من القيمة باعتبارها المبدأ الموجه للاقتصاد، ألا وهو قيمة حماية الحياة، ويؤكد أن ذلك هو المستقبل المرجح استمراره في حال تمديد الإجراءات المُتخذة حاليًا في كل من بريطانيا وإسبانيا والدنمارك.

وأوضح ماير أن الإجراءات التي تتخذها الحكومات مثل تأميم المستشفيات ودفع مرتبات إلى العمال لا تعتبر أدوات لحماية الأسواق، بل هي آلية لحماية الحياة نفسها، وفي هذا السيناريو، تتدخل الدولة لحماية القطاعات الاقتصادية الضرورية للحياة؛ مثل إنتاج الغذاء والطاقة وتوفير المسكن، وبذلك لا تخضع الاحتياجات الأساسية للحياة بعد ذلك لتقلبات السوق.

ويؤكد ماير أن ذلك السيناريو لن يعتمد فيه المواطنون على أصحاب العمل باعتبارهم وسطاء بينهم وبين شرائهم للاحتياجات الأساسية للحياة؛ حيث تُقدم المدفوعات للجميع مباشرة بغض النظر عن أي قيمة مبادلة يقدمونها نظير تلك المدفوعات، وبدلًا من ذلك تُقدم إلى الجميع على أساس أن كافة الأفراد يستحقون الحصول على الاحتياجات الأساسية ليتمكنوا من الحياة.

ورجح احتمالية تحول الحكومات إلى الاشتراكية، في حال طال أمد تلك الجائحة أو في حال تسببت تلك الأزمة في تعرض الاقتصاد لركود عميق تسبب في حدوث خلل بسلاسل التوريد بحيث لا يُمكن زيادة الطلب بعد اتباع السياسات الكينزية التقليدية التي نشهدها الآن (طباعة الأموال، مما يسهل من إمكانية الحصول على القروض)، وتتولى حينئذ الدولة السيطرة على عملية الإنتاج.

وحذر ماير من مخاطر الوقوع في براثن الاستبداد عند تطبيق هذا السيناريو، فيما رجح أنه حال تطبيقه بشكل صحيح، قد يكون حيئذ الحل الأمثل لنا ضد تفشي الفيروس التاجي، وتصبح بذلك الدولة قادرة على حشد الموارد من أجل حماية القطاعات الرئيسية للاقتصاد والمجتمع.

"المساعدة المتبادلة"

يُعرف ماير هذا السيناريو بأنه المستقبل الثاني الذي تُعتمد فيه سياسة حماية الحياة باعتبارها مبدأً توجيهيًا للاقتصاد، ففي هذا السيناريو لا تتبنى الدولة دورًا محددًا، وبدلًا من ذلك يبدأ الأفراد في تنظيم مجموعات الدعم والرعاية داخل مجتمعاتهم.

ويوضح أن المخاطر التي يتضمنها هذا السيناريو تكمن في فشل المجموعات الصغيرة في تعبئة نوع الموارد المطلوبة بسرعة من أجل زيادة قدرة الرعاية الصحية بفعالية، إلا أنه قد يُساعد في منع انتقال العدوى من خلال بناء شبكات مجتمعية تُطبق قواعد العزل الشرطية وتُساعد المناطق الأكثر ضعفًا.

ويرى أن هذا السيناريو يخلق هياكل ديمقراطية جديدة، تُسهم في تكوين مجتمعات صغيرة قادرة على تعبئة الموارد بسرعة كبيرة، وفي حال توافر مهارات طبية بينهم فسوف يُساعدون في وقف تفشي الفيروس، ويؤكد ماير أن ذلك النوع من الاستجابات المجتمعية أسهم في وقف تفشي فيروس إيبولا في غرب أفريقيا، ونراه كذلك في يومنا الحالي في المجموعات التي تُقدم دعم ورعاية مجتمعية.

الأمل والخوف

ويختتم سيمون ماير مقاله التحليلي بالقول إن تلك السيناريوهات هي لا تزال من وحي الخيال وقد تمتزج في بعضها البعض، لكنه يخشى بشدة أن تنتقل الأنظمة السياسية في الدول من الرأسمالية إلى الهمجية، فيما يأمل أن تتحول الدول إلى مزيج من الاشتراكية والمساعدة المجتمعية المتبادلة؛ ما سيُسهم في إنشاء دولة قوية وديمقراطية تُقدر الحياة وتعتمدها مبدأً رئيسيًا لتوجيه الاقتصاد وقادرة على حشد الموارد لبناء نظام صحي قوي، وتُقدم الأولوية لحماية الأكثر ضعفًا من تقلبات الأسواق، وتُمكن المواطنين من تكوين مجموعات مساعدة متبادلة بدلًا من العمل في وظائف لا طائل من ورائها.