← رجوع

الحرب في أوكرانيا: صراع بين القوى العظمى لم تشهده أوروبا منذ 1945

ترجمة: إبراهيم مأمون

أصبح الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير الماضي بمثابة عودة إلى الحرب بين الدول وهو الأمر الذي لم تشهده القارة الأوروبية منذ عام 1945.

وتُعد الحرب التي لا تزال دائرة حتى يومنا هذا بمثابة حدث مزلزل للاقتصاد العالمي، حيث لا تزال بقية دول العالم تحاول فهم آثاره الكاملة؛ ففي ساحة المعركة، رغبت روسيا في تحقيق نصر سريع وسهل، إلا أن الحرب انتقلت الآن إلى مرحلة أكثر استنزافًا فلا تستطيع روسيا السيطرة على أوكرانيا، ولا تستطيع أوكرانيا طرد القوات الروسية من أراضيها.

واتضح حاليًا حتى الآن أن الأثر الفوري للحرب، إلى جانب معاناة سكان أوكرانيا، هو زيادة اعتماد الدول الغربية على المنظمات متعددة الأطراف، خاصة منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

ومن أجل التصدي لأي عدوان أو تهديد على دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي التي تقع على الحدود مع روسيا، سيُصبح هناك حاجة إلى ردع فعال، سواءً كان بوسيلة تقليدية أو نووية، يُشكَّل من قوات دفاعية تُلائم قدرة وحجم المنظمة.

وفي السنوات القليلة الماضية، اقتربت أوكرانيا مثلها مثل دول أوروبا الشرقية الأخرى من الغرب اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، فيما ترى موسكو العلاقات المتنامية بين أوكرانيا والغرب على أنها تهديد للأمن القومي لبلادها.

ومنذ تفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، استاء القادة الروس من الوجود المتزايد لحلف الناتو على مقربة من بلادهم، وصرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2005 بقوله إن تفكك الاتحاد السوفيتي كان أكبر كارثة في القرن العشرين.

وعلى مدار العقدين الماضيين، سعى الرئيس بوتين إلى إعادة تأسيس روسيا كقوة عالمية وتصدى لأي تحرك من جانب الجمهوريات السوفيتية السابقة للانضمام إلى المعسكر الغربي.

ومن ناحية أخرى، تنفي الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بشدة الاتهامات الروسية بأنهم يسعون إلى إضعاف موسكو أو تهديدها، وتؤكد أنها تدعم حق كل دولة في اختيار توجهها السياسي الداخلي والخارجي دون تدخل أجنبي.

التداعيات الاقتصادية

ولقد تسببت الحرب في أوكرانيا بآثارٍ خطيرة للغاية على أسواق الغذاء والطاقة العالمية، كما أنها تتجه نحو إحداث آثار متتالية على الاقتصادات والمجتمعات في جميع أنحاء العالم.

وبخلاف ما حدث خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية في عامي 2010/2011، فإن الحرب في اوكرانيا حدثت في وقت يشهد فيه العالم اضطرابات استثنائية في سلاسل التوريد العالمية التي أعقبت جائحة "كوفيد-19" وكذلك ارتفاع تكلفة المعيشة بشكل حاد في كافة أنحاء العالم بالفعل.

ويُسبب الارتفاع الحالي في أسعار الأغذية والأسمدة بشكل خاص أضرارًا بالدول منخفضة الدخل التي تستورد حصة كبيرة من إمداداتها الغذائية، ويحد كذلك من قدرة المنتجين على زيادة الإنتاج.

وفي مستهل العام الحالي، تزايدت المخاوف من الغزو الروسي لأوكرانيا، ما تسبب في ارتفاع سعر النفط بشكل حاد، وخلال شهر مارس، بلغ سعر النفط ذروته عند 128 دولارًا للبرميل.

وبالرغم من حالة الركود الاقتصادي العالمي الناجم عن الجائحة في مستهل عام 2020 والذي تسبب في انخفاض أسعار الغاز الطبيعي والفحم بسبب تباطؤ الطلب من المصانع، لكنها تبعت ارتفاع النفط وارتفعت من جديد في مستهل العام الحالي بسبب المخاوف الجيوسياسية.

ومع تزايد التوترات، صدرت الشركة الروسية "غازبروم" غازًا طبيعيًا أقل بنحو 25% إلى الدول الأوروبية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020.

وتشهد أسعار الغذاء أكبر زيادة وأكثرها استدامة بالفعل على مستوى العالم منذ أزمتي أسعار الغذاء في 2007-2008 و2010-2011، التي كان العالم يُعاني خلالهما من ارتفاع أسعار الغذاء قبل اشتعال فتيل الصراع الروسي الأوكراني بفترة طويلة للغاية، لكنها في عام 2021 عادت مرة أخرى لتُقارب مستوياتها السابقة لعام 2011، وبحلول فبراير 2022، تجاوزت هذه الذروة السابقة.

ولقد كان الاتحاد الأوروبي حادًا في التزامه بالتحول في مجال الطاقة، لكنه اعتمد خلال تنفيذه لهذا التعهد على الطاقة الروسية، حيث خفض من الإنتاج محليًا وزاد من الاستثمار في الطاقة المتجددة، إلا أن الطاقة المتجددة الحالية غير كافية لتلبية الطلب المحلي.

ونظرا للتحول الكبير بعيدًا عن الوقود الأحفوري المطلوب من أجل الالتزام بالمسارات المتوافقة مع اتفاق باريس للمناخ في عام 2015، فمن المرجح أن يُصبح الاعتماد الأوروبي على موارد روسيا من الطاقة مؤقتًا، لكنه خلال الفترة الحالية لا يزال كبيرًا للغاية مثلما كان خلال الفترات الماضية.

وفي مواجهة التحول العالمي في مجال الطاقة وانخفاض عائدات تصدير الوقود الأحفوري، سوف تبحث روسيا بإلحاح عن طرق للحفاظ على قوتها الاقتصادية والسياسية.

وبإيجاز، فإن الحرب في أوكرانيا تسببت في اضطرابات لوجستية فورية وكبيرة في قطاعات الطاقة والغذاء والأسمدة، وإلى استجابات سريعة وقوية من الدول الغربية في شكل عقوبات اقتصادية ضد روسيا، وهي العوامل التي تسببت عند اجتماعها في وقت واحد في الارتفاع السريع لأسعار منتجات الطاقة والغذاء والأسمدة في جميع أنحاء العالم.

وفي أواخر شهر أبريل الماضي، توقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي بشكل كبير هذا العام في ظل تداعيات الحرب الأوكرانية، ورجح أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.6% خلال هذا العام، انخفاضًا من 6.1% في عام 2021.

وعزا صندوق النقد الدولي خفض توقعاته في المقام الأول إلى الحرب، وتكاليفها الاقتصادية على قطاعات الغذاء والطاقة والتي تسببت في اضطراب حركة التجارة العالمية.

ويتوقع الصندوق انكماش الاقتصاد الأوكراني بنسبة 35% خلال عام 2022، فيما رجح أن تتسبب الحرب، حتى مع الفرضية الإيجابية بانتهائها قريبًا، في إعاقة الأنشطة الاقتصادية بشدة لسنوات عديدة قائمة، نظرًا لما تكبدته أوكرانيا من خسائر في الأرواح وتدمير لرأس المال المادي.

ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 8.5% في عام 2022 و2.3% في عام 2023، بعد تسجيله نموًا نسبته 4.7% في العام الماضي، كما من المُرجح أن يتأثر اقتصادها بالانخفاض الحاد في صادرات الطاقة إلى أوروبا الغربية والعقوبات التجارية والمالية الغربية وانسحاب الشركات الأجنبية من صناعات مثل الطيران والتمويل وتطوير البرمجيات.

وتوقع الصندوق أن تتباطأ اقتصادات أخرى في أوروبا بشكل حاد نتيجة لآثار الحرب، والتي تتضمن ارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.

ويتوقع الصندوق أن ينمو اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 2.8% في عام 2022 و2.3% في عام 2023، انخفاضًا من 5.3% في عام 2021.

وفي الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي يرفع فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة من أجل خفض التضخم الذي سجل أعلى ارتفاع له في أربعة عقود، من المتوقع أن ينمو اقتصادها بنسبة 3.7% في 2022، و2.3% في 2023، بانخفاض من 5.7% في 2021.

الحرب الاقتصادية

عندما أمر الرئيس الروسي بغزو اوكرانيا في فبراير الماضي، رأت الولايات المتحدة وحلفائها أن العقوبات الدولية هي أفضل الطرق للتعامل مع الحرب، حيث تسببت هذه العقوبات بالفعل في تراجع كل من الاقتصاد الروسي وقدرته في الحرب على أوكرانيا، كما قدمت تلك العقوبات رسالة طمأنة ودعم إلى الشعب الأوكراني.

ومع انسحاب الشركات الأجنبية من روسيا، توقع عمدة موسكو سيرجي سوبيانين تعرض حوالي 200 ألف روسي لخطر فقدان وظائفهم، فيما تُشير بعض الدلائل إلى أن القرار الأوروبي والأمريكي بتقييد تصدير الرقائق الدقيقة قد أثر بالفعل على قدرة روسيا على إنتاج وإصلاح الدبابات.

ومع ذلك، وفي الوقت الذي تُعِّد فيه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسها من أجل المرحلة الثانية من هذا الصراع، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية تحديد ما هو المرجو أن تحققه هذه العقوبات.

ومن السابق لأوانه معرفة كيف سيحكم التاريخ على هذه العقوبات غير المسبوقة لجعل الرئيس الروسي يدفع ثمن حربه، كما لا يُمكن التنبؤ بالعواقب غير المقصودة التي قد تسفر عنها هذه العقوبات في الأشهر أو السنوات المقبلة، إلا إن الفترة الماضية ظهر بها الكثير من المؤشرات على أن آثار الحرب والعقوبات التي تبعتها سيدومان لفترة طويلة.

ونظرًا لكونه من الحكمة وضع أهداف محددة واستراتيجية عندما تحاول دولة ما الدخول في صراع عسكري، فإن الأمر نفسه ينطبق مع شن حرب اقتصادية؛ فقد لجأت الدول الغربية بوتيرة متزايدة إلى العقوبات باعتبارها أداة حربية منذ الحرب العالمية الثانية في مناطق متنوعة، مثل جنوب أفريقيا والاتحاد السوفيتي وكوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وإيران.

وتجد القوى الغربية سهولة كبيرة في تطبيق العقوبات لتفادي الضغط المحلي لـ"فعل شيء ما" دون التدخل عسكريًا، لكننا وعند مراجعتنا لنتائج تلك العقوبات تاريخيًا، نجد أنها لم تكن فعالة بشكل خاص في تغيير الأنظمة، كما أن سجلها في تغيير سلوك الأنظمة الاستبدادية هو متباين لدرجة ما، فلم ترضخ كل من كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية لمطالب الولايات المتحدة قط، فيما نرى في عقوبات أخرى أنها حققت نتائج إيجابية، لكنها متواضعة للغاية، مثل إيران.

ودفعت العقوبات إيران إلى الانضمام إلى طاولة المفاوضات للتفاوض بشأن برنامجها النووي، إلا إن الحكومة الإيرانية لم تتوقف أبدًا عن التأكيد على حقها في تخصيب اليورانيوم.

وأسهمت آثار العقوبات في نهاية المطاف في نهاية حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، لكنها كانت من بين عوامل كثيرة أخرى.

ومن أجل إدراك آثار العقوبات ونتائجها، يتعين على الأمريكيين تذكر تجربتهم الخاصة مع العقوبات عندما فرضت الدول العربية حظرًا نفطيًا على الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، ما تسبب في آثار اقتصادية على الولايات المتحدة، لكنه لم يوقف واشنطن عن دعم إسرائيل.

وتستحق إدارة بايدن بعض الثناء على وضع أسس للعقوبات متعددة الأطراف، حيث قدمت حتى الآن عقوبات متنوعة ما بين فصل روسيا، ولو جزئيًا، عن النظام المالي العالمي من خلال تجميد مليارات الدولارات من الأصول في الخارج أو فصل بعض البنوك الروسية عن نظام "سويفت" العالمي.

ولم يكن من الممكن تصور فرض مثل هذه العقوبات على النظام الروسي حتى قبل بضعة أشهر قليلة، لكن التوصل إليها أظهر شعورًا جديدًا بالتعاون بين الولايات المتحدة وبلدان مجموعة الـ7 الأخرى.

لكن بعد فرض كل تلك العقوبات، نجد أنفسنا أمام تساؤل حقيقي، هل ستعزل هذه العقوبات روسيا حقًا؟ الجواب الواضح هو لا.

لا تزال العديد من الدول، من بينها المكسيك والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا وأيضًا الصين يحافظون على صداقتهم مع روسيا. وحقيقة أن هذه القائمة من الأصدقاء تتضمن أيضًا الخصمين اللدودين باكستان والهند وإيران وإسرائيل توضح مدى نفوذ الرئيس الروسي كتاجر أسلحة ووسيط قوي في منطقتي جنوب آسيا والشرق الأوسط.

وتستطيع الولايات المتحدة تشديد الخناق الاقتصادي على روسيا من خلال فرض عقوبات ثانوية، وهي العقوبات التي ستُصبح بمثابة أداة قوية لإجبار الدول الأخرى على الانسجام مع السياسة الأمريكية، إلا إن الفوائد المرجوة من مثل تلك العقوبات تحتاج إلى الموازنة بين المخاطر والتكاليف؛ حيث أصبح فرض تطبيق السياسة الأمريكية على الدول التي هي خارج حدودها الإقليمية يُثير استياءً عميقًا، حتى مع حلفائها من الدول الأوروبية في بعض الأحيان، لذا يتعين على واشنطن استخدام تلك العقوبات الثانوية بدرجة أقل، و بعد التشاور مع حلفائها.

وقد ينتج كذلك عن العقوبات عواقب أخرى غير مقصودة، فقد تتسبب في نهاية الأمر في تعزيز قبضة الدكتاتور على السلطة من خلال تشديد الدولة سيطرتها على الاقتصاد؛ فقد تجد شركات القطاع الخاص صعوبة في التغلب على العقوبات، إلا إن الأنظمة الاستبدادية وشركاتها المملوكة للدولة غالبًا ما تجد طرقًا للتحايل عليها.

وتوفر العقوبات أيضًا للديكتاتوريين عدوًا خارجيًا يتحمل المسؤولية عن بؤس شعوبهم، وعند وجود مثل ذلك العدو، فبدلًا من انتفاض الشعوب ضد حكامهم بسبب وضعهم المعيشي، غالبًا ما تدفعهم العقوبات إلى تأييد أنظمته ضد العدو الخارجي.

وعلى سبيل المثال، فعندما فرضت القوى الغربية عقوبات على روسيا في عام 2014 في أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، رأى 71% من الروس أنها محاولة "لإضعاف وإذلال روسيا"، وذلك بحسب استطلاع رأي مستقل.

لذلك، ورُغم أن العقوبات الاقتصادية قد تُعيق اقتصادات الدول، لكنها نادرًا ما تفرض تغييرات سياسية شاملة يرغب المسؤولون في الولايات المتحدة وأوروبا في تحقيقها؛ حيث أظهرت الأبحاث أن العقوبات قد تُحقق بعض التغييرات ذات المغزى في السلوك بنسبة 40%، لكنه من غير المرجح أن يحدث ذلك التغيير عند فرض العقوبات دون تحديد أهداف واضحة يتعين تنفيذها من أجل دفعهم للتراجع عن تلك العقوبات.

ويُعد هذا سببًا إضافيًا لدفع الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوروبية لوضع خطة واضحة تُحدد كيفية وظروف التراجع عن العقوبات، حيث تُرك هذا الأمر غامضًا في الوقت الحالي بشكل متعمد من أجل السماح للأوكرانيين بالتفاوض مع روسيا بشكل مباشر، وهو أمر يستحق الثناء عليه نظرًا للأوضاع التي يُعاني منها الأوكرانيين في هذه الحرب الرهيبة.

لكن في النهاية، يُعد وضع أهداف واضحة للعقوبات وكذلك معايير لتخفيفها هما عاملان مهمان في نجاح العقوبات؛ حيث إن كثير من العقوبات تُترك لعقود دون تقييم ما إذا كانت تحقق أم لا تحقق النتائج المرجوة منها.

وكانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يتعاملون دائمًا بحذر عند فرضهم عقوبات تستهدف تشديد الخناق الاقتصادي على روسيا، طالما لا يمتلكون أجندة واضحة حول ما يمكن تحقيقه أو ما لا يمكن تحقيقه من هذه العقوبات.

التكيف مع النظام العالمي

ومنذ تفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حاولت روسيا بشتى الطرق التكيف مع النظام العالمي الجديد، وكانت دول شرق أوروبا مثل دول البلطيق وبولندا ورومانيا وأوكرانيا تنظر إلى نهاية الحرب الباردة باعتبارها الفصل الأخير في صراعهم المستمر منذ قرون ضد هيمنة موسكو، ورأت في الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي مفتاح الهروب من ماض طويل ودموي وقمعي.

وعلى غرار الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية، الذين كانوا يخشون من اليوم الذي تهدد فيه ألمانيا من جديد بلادهم، اعتقد الأوروبيون الشرقيون أن روسيا سوف تستأنف في نهاية المطاف عادتها الإمبريالية التي دامت قرونًا من الزمان وسوف تسعى من جديد إلى استعادة نفوذها التقليدي على حساب جيرانها، لذلك، فقد أرادت هذه الدول الاندماج في رأسمالية السوق الحرة لجيرانها الغربيين الأكثر ثراءً، وكانت العضوية في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بالنسبة لهم بمثابة السبيل الوحيد للخروج من ماضٍ كئيب إلى مستقبل أكثر أمانًا وديمقراطية وازدهار.

وفي الوقت نفسه، سعى الرئيس بوتين إلى استعادة النفوذ الروسي في أوروبا الوسطى والشرقية الذي فقدته موسكو مع انهيار الاتحاد السوفيتي، إلا إن المشكلة التي واجهته هو أن هذا النفوذ لا يُمنح لقوة عظمى من قبل قوى عظمى أخرى، ولا يكون موروثًا بالتأكيد، ولم يُخلق أيضًا بحسب الطبيعية الجغرافية "التقليدية" لتلك الدول، بل يُكتسب بحسب القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويتغير بالتأكيد بحسب التغير في موازين القوى العالمية؛ ففي عقود ليست ببعيدة كان مجال النفوذ البريطاني يُغطي جزءًا كبيرًا من العالم، وكانت فرنسا تتمتع بنفوذ كبير في منطقة جنوب شرق آسيا والكثير من الدول الأفريقية والشرق الأوسط، لكن كلاهما خسرا ذلك النفوذ، ويرجع ذلك بالتأكيد إلى التغير في موازين القوى في بداية القرن العشرين وانهيار إمبراطوريتهم، ومُقايضتهم في منتصف القرن الماضي لذلك النفوذ بالنظام العالمي الجديد الأكثر استقرارًا وازدهارًا، والذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة.

والحق يُقال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمكن لسنوات عديدة من قراءة الموقف الأمريكي والغربي تجاه بلاده، بل وحقق أهدافًا محدودة وملموسة دون إثارة رد الفعل الغربي بشكل خطير ضد بلاده، حتى مع غزوه الأخير لأوكرانيا.

ولسنوات عديدة، وقفت واشنطن وأوروبا مكتوفة الأيدي في الوقت الذي يزيد فيه بوتين قدرات بلاده العسكرية، ولم يفعلوا أي شيء بينما كان يختبر العزم الغربي، أولًا في جورجيا في عام 2008 ثم في أوكرانيا في عام 2014، ولم يتصرفوا بشكل صحيح عندما عزز بوتين موقف روسيا في بيلاروسيا أو عندما تواجد عسكريًا بقوة في سوريا، حيث يمكن لأسلحته أن تُغطي الآن الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي.

إن التحدي الذي تفرضه روسيا حاليًا ليس غريبًا ولا غير منطقي؛ حيث إن صعود وسقوط القوى العظمى يستند في النهاية على العلاقات الدولية، وتتغير اتجاهات الدول بسبب الحروب وما ينتج عنها من بزوغ قوى جديدة وتغيرات في الاقتصاد العالمي تثري دولًا وتُفقر دولًا أخرى، ويستند كذلك إلى المعتقدات والأيديولوجيات التي تدفع الأشخاص إلى تفضيل قوى على أخرى.

وختامًا، على الأرجح ستستمر الحرب الروسية الأوكرانية لفترة طويلة، حيث إنها تعكس رؤيتين متعارضتين؛ فالجانب المؤيد لروسيا يرى أن موسكو تسعى إلى استعادة نفوذها على أوروبا الشرقية، ومنع اختراق الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للدول المجاورة لها وإعادة ترسيخ مكانتها كقوة عظمى، أما المعسكر الغربي فيرى أن الغزو الروسي لأوكرانيا يُعد تهديدًا للسوق الحرة وسيادة القانون والنظام الدولي الديمقراطي، لذلك، وفي ظل هذه الرؤيتان المتعارضتان، فلن يُوجد على الأرجح أي حل وسط لتلك المأساة التي يدفع ثمنها عشرات الآلاف من الأبرياء على صراع بين القوى العظمى.